الثلاثاء، 24 فبراير 2009

اليوم الأول

لم تستطع العواصف العاتية المنبعثة من كل جانب من الشارع في أنت تعكر عليّ صفو نشوتي، ولم تتمكن النظرات الحادة المندهشة والتي تحيط بي من كل جانب أن تشتت اندماجي العميق مع ما أحس به، لم أشعر بالضيق رغم أن كل ما حولي لا يدعو إلا لذلك بل وأشد،، انتظر طيلة نصف الساعة ولا توجد وسيلة مواصلات تتسع لأحد قدميي ،، تأخرت عن العمل كثيراً ،،، لو أنني لم اتخذ قراراً بترشيد النفقات لكنت توسلت لتاكسي كي يقلني،، أخيراً نجحت في الحصول على شبرين ونصف في أحد الأتوبيسات الخضراء الجديدة ذات الأجرة الموحدة (جنيه ونصف)، كما وفقني الله تعالى لمفعد فارغ ،،، وبدأ المران على الصبر والتصبر ،،، الشمس مشرقة وساخنة بعض الشئ،، الأتوبيس مزدحم ،،، لا يكاد يسير بضعة أمتار ليتوقف بعدها عشرات الدقائق،، لو كنت سرت لكنت أسرع منه ،،، ولكن لم يفت ذلك من عضد حالتي وتوحدي مع إحساسي،،، والذي بدا جلياً على كل جزء من بدني ,,,

هرعت من منزل صديق لي في الثالثة بعد منتصف الليل،، كان حديثنا مشوقاً وطويلاً ،، أجبرتنا دقات الساعة على تأجيل ما لم يكتمل منه،،، أسرعت إلى الشارع الرئيسي كي استقل شيئا للمنزل،، خرجت إلى كورنيش النيل ،،،بدا وكأنني آراه للمرة الأولى ،،، كانت النسمات الرقيقة تتراقص على وهج الأضواء الأنيقة التي تزدان بها صفحة النيل الصافية،،، تمعنت في النظر حولي،،، استغرقني المنظر،،، إلى أن أحسست بأنني جزء من تلك اللوحة المبهجة العذبة،، وكأنني دخلت إلى بوابة عالم آخر ،،، يجذبني بشدة ،،، يأخذ بيديّ ،، يطمئنني،، يهمس في أذني ويقول:" فلتبدأ حياة جديدة " ،،،

لوحة متأنقة وكأنها فتاة تتألق في ليلة عرسها،،، تبتسم إلىّ ،، وتمد يدها وتأخذ بمعصمي،،، تفك قيدي ،، تطلقني ،،، شعرت أنها تعرفني جيدًا،،، وتدرك المعضلة التي عانيت منها طويلاً،،، تحثني على الكلام ،، على التعبير عما يعتمل في نفسي ،،، فكثيرًا ما كنت اتحدث لنفسي ،،، أشكو لها ،،، أفرح معها ،،، أشقى برفقتها،،، حين أحب اعتمد على أفعالي في البيان ،،، وعندما أكره أتكأ على ملامحي في الإفصاح،،، لم استطع أن أقاوم ابتسامتها البراقة ،،، وتعبيراتها المريحة ،،، ولمسة يدها المطمئنة ،، استسلمت لها ،، وسرت معها ،،، في لحظات علمتني كيف أكون حراً ،،، معبراً،، منطلقاًً،،،

كنت استمع إلى أغنيات اعتدت الاستماع إليها أثناء سيري في الأيام القليلة الماضية،،، لا أنكر أنها كانت تبعث في نفسي أحاسيس متنوعة طالما اشتقت للإفصاح عنها ،،، ولكن كانت احاسيسي تتراقص بداخلي،،، وربما كنت أبالغ أحياناً واهز يديّ هزات خفيفة منسجمة مع النغمات،،، وترتسم على وجهي ملامح تعبر عن الكلمات،،، لكني الآن أجد نفسي متحركاً ،،، لا أبالي بمن حولي ،،، حتى لا أبالي إن كان هناك أصلاً من يشاركني السير على ضفاف هذه اللوحة ،،، لأول مرة يخرج الطفل الذي بداخلي للنور ،،، كان فرحا مبتهجا ،،، يجري هنا وهناك ،،، يثب يمينا ويسارا ،،،، يتتبع خطوط تنظيم المرور وسط الشارع،، وانطلق العاشق يلهث ،،، يريد أن تنتشر أصداء صوته في كل ركن،،، يسير في منتصف الطريق،، يمد ذراعيه ،،، يستدير ويستدير ،،، ينعم بنسمات الهوى،،، ويستنشق عبير الشوق،،، وقفز المتمرد من ظلمات زنزانته،،، قرر أن يحيا حراً ،، لا يقوده سوى تمسكه بالحق،،، مرر بنقطة تفتيش للشرطة ،،فاستمر في قفزه وغنائه ،، ولم تهزه مشاهد بعض الشباب المحتجزين ،، والذين لا تظهر عليهم أي علامات إجرام،،، استمر مزهواً، فرحاً، متألقاً ،،، ولم يخش إلا أن يظنوه "ثملاً".

مررت بهذه الطرقات مرات ومرات،،، لكن هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا الجمال،،، وألحظ هذا التألق،،، لم استعجب ،،، فأنا أعرف نفسي منذ سنوات،، ولكني لم أرها كذلك من قبل ،،، لا أعرف ما هذا الشئ الذي يجعلك تحس وكأنك ولدت من جديد،،، تعيد التعرف على كل شئ ،،، حتى نفسك ،،

"بقالي زمان بخاف احكي ، بداري دمعتي في ضحكي ، ولو إحساسي كان ملكي هغير فيه" ،،، وكأنها تتحدث عني ،،، سمعتها كثيراً ،، ولكن هذه المرة كنت أودع فيها شطر حياتي الذي مضى وقت أن أخذت بيدي تلك اللوحة الحسناء،،، سمعتها وأنا أتخلص من بقاياه المؤلمة ،، سمعتها وأنا أودعه ،،، أرثيه،،،، شعرت بأن رهبة الحكي لم تعد تشل لساني،، لن أكتم دمعي بعد الآن ،،، لن تكون ضحكاتي صوراً زائفة لمعاناتي،،، سأضحك ضحكاً خالصاً ،،، وأبكي دون حاجة لتبرير،،،، ومشاعري وإن لم تكن ملكي ،، فلا ريب ان بيديّ أن أبعث الروح فيها أو أن أسلبها معانيها،،،،

وصلت المنزل،، ورغم انفصالي المكاني عن لوحتي ،، مخلصتي ،،، إلا أن خيوطها لازالت تلف قلبي ،، لازلت أحتضنها بين ضلوعي ،، ما تعلمته منها يرن في أذني ،،، راسخ في عقلي،،، ذهبت مسرعاً لأنام،، نمت مطمئناً لاستعد لليوم التالي ،،، اليوم الأول،،، اليوم الأول من الحياة الجديدة التي أخذتني إليها.

الخميس، 12 فبراير 2009

"ألا نتعلم شيئاً من تلك الهزيلة"

كانت رشيقة للغاية، تنساب على درج المترو وكأنها ورقة شجر نضرة اختارت أن تسبح على بساط النسيم، كانت ملفتة وجذابة، رغم بساطتها الشديدة، كانت ملابسها عادية، بسيطة، وتقليدية بالنسبة لامرأة أجنبية في منتصف العمر، ارتسمت على شفتيها ابتسامة نقية، وازداد احمرار وجنتيها الحيتين عندما رمقتها أعين المارة، وتدريجياً أصبحت محط أنظار الجميع وكأنها تؤدي دوراً مثيراً على خشبة إحدى مسارح باريس، الكل تقفز من عينيه الرغبة في القرب منها والولع بالتودد إليها،عندما اشتد الأمر عليها ظهرت أمارات الخجل في عينيها المتوقدتين بالحيوية والنشاط، ثم تحولت لمعة الخجل في عينيها إلى وهج الاستغراب والشك.

أما الأخرى فكانت كزهرة ياسمين ذبلت من شدة وطأة الريح، الريح التي حملتها إلى كل حدب وصوب، وهي مستسلمة لها، آملة أن تجد هنا أو هناك رشفة ماء تروي ظمأها، أعين الناس رشقتها هي الأخرى ، ولكن بنظرات مغايرة، كانت نحيفة، هزيلة، قصيرة القوام، كانت ملابسها متسخة، يبدو على وجنتيها سواد يوم طاحن من الكدح و السعي، تحمل على عاتقها حقيبة، بدت أنها تعاني من حملها، دخلت إلى السيارة الأجرة ورغم عدم توافر مقعد، إلا أنها لم تبال وتكيفت في أحد أركان السيارة، وانكمشت داخل حقيبتها التي وضعتها على ساقيها، ورغم سهام النظرات الحادة التي كانت تتربص بها إلا أنها استغرقت في النوم ولم تلق بالاً.

لم استعجب كثيراً من نظرات الناس التي كادت أن تخطف السيدة الأجنبية، استبعدت أن تكون نظرات الرجال لها بدافع الافتتان، فهي امرأة عادية جدا، كما أنها لا تظهر مفاتنها، إلى جانب أن هناك العديد من الفتيات الجميلات اللواتي شحذن أنفسهن للقتال في عربة الرجال، احترت كثيراً ولكنني اهتديت أخيراً إلى أنها ربما تكون "عقدة الخواجة"، أما تأملات النساء فيها فقد تصورت أنها من قبل الغيرة، فقد فاقتهم سناً ورشاقةً وعذوبةً، وإن لم تكن أبهى ولا أجمل ولا أفتن منهن، ولكن واتتني فكرة، ربما كن يشعرن بالحقد عليها، فبعد عناء التزين والتعطر والأبهة، تأتي هذه "المصيبة" وتخطف أنظار الرجال.

كانت رأسها تترنح في الاتجاهات جميعها تناغماً مع الحركات العنيفة للسيارة، ولكن غرقها في نعاسها البرئ كان أعمق بكثير من أن ترجها تلك الهزات، رغم ضعفها وقلة الحيلة التي بدت على وجهها، إلا أن قوة غريبة كانت تشع من بين جنباتها وهي تحتضن حقيبتها بإصرار، وعزة نفس جامحة كانت تكتنفها عندما تعدل من جلستها حتى لا تميل على أحد المسافرين، كنت عائداً من زيارة لبعض الأصدقاء في بنها، والساعة تربو على الواحدة بعد منتصف الليل، ظلت عيناي مثبتتين عليها، لم أنشغل كثيراً بمتابعة نظرات غيري من الركاب، وحتى لا تشك في أمري إذا استيقظت ورأتني أحدق إليها، اضطررت أن أدير وجهي يميناً أو يساراً بين الحين والأخر، واكتفي بنظرات عابرة عليها.

وبينما استغرق مستقلو عربة المترو في النظر إلى السيدة الأجنبية، ظلت عيناي تراقب الموقف ولكن عقلي كان يستعيد صورة تلك الفتاة النائمة، أحسست بأنني انقسمت شطرين، شطر في المترو يتابع تلهف البشر على الأجنبية، وشطر في سيارة الأجرة يقف منبهراً أمام تلك الزهرة المترنحة، حاولت أن أعقد مقارنة بين نظرات الناس في كلا الموقفين، ولكني لا أتذكر جيداً كيف كان ينظر الركاب للفتاة، جاهدت كثيراً إلى أن أسعفتني ذاكرتي،،، هؤلاء الفتية الذين بدت عليهم علامات البهجة والمرح، ربما كانوا عائدين من سهرة أو "لقاء أنس"، دلتني على ذلك ضحكاتهم المرتفعة وصخبهم الذي كان يعكر صفو تركيزي مع الفتاة، استمروا كذلك لفترة، إلى أن لاحظوا تلك المترنحة والشامخة في الوقت نفسه، خفتت أصوات ثرثرتهم المزعجة، ونظر بعضهم إلى بعض، ونظروا إليها، ثم اعتلتهم حالة من الصمت الطويل، وكأنهم كانوا يندبون حالهم، هالتهم ملامح الكفاح والعزة والإصرار التي توجت جبهتها رغم ضعف جسدها وشحوب بشرتها، بدا لي أن لسان حالهم يقول: "ألا نتعلم شيئاً من تلك الهزيلة".

يدخل القطار إلى المحطة وتتأهب السيدة للرحيل، اتجهت نحو باب العربة، تتابعها الأنظار، أحسست أنهم تمنوا أن تكون تلك المحطة هي الأخيرة، حتى يمكنهم مغادرة القطار معها، لاستكمال مشاهدة تلك "الأسطورة العجيبة" التي لم يحل سنها دون سطوع النضارة من وجهها وانتشار الحيوية على أطراف جسدها، توقف القطار، خرجت السيدة وإلى جانبها من أسعدهم الحظ بأن تكون تلك المحطة هي وجهتهم، حتماً كانوا سعداء أن "العرض" لم ينته بعد بالنسبة لهم.

عدت أنا لفتاتي، تذكرت حين وصلت السيارة الأجرة إلى ميدان رمسيس، وخرج الجميع مهرولين دون أن يلقوا لها بالاً، وتركوها وحدها لا تزال غارقة في النعاس، لا أعرف ما الذي جعلني أخرج مثلهم دون أن انبهها، خرجت وعيناي مثبتتان عليها ولم أحرك ساكناً إلى أن قال لها السائق: " استيقظي يا بنت، وصلنا رمسيس"، بكل خفة ووقار أخذت حقيبتها وخرجت من السيارة، سلكت طريقها وعبرت إلى الجهة الأخرى من الميدان وظلت نظراتي تتابعها في إجلال إلى أن تلاشت.